الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن المسلم ليُسَرْ حينما يسمع أو يرى من المسلمين من يبذل من أمواله في مجالات الخير رغبةً في الأجر وطلبًا للثواب وغفران السيئات.
أسأل الله تعالى أن يبارك في الجهود، ويزيد الجميع من الخير، وأن يعطي منفقًا خلفًا، ويبارك له في نفسه وذريته.
ولكني أُحب أن أنبّه إلى بعض المسائل التي تتعلق بالإنفاق في مجالات الخير:
1 - لنتدبر قول الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12].
قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي في تفسيره لهذه الآية: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى أي: (نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا من الخير والشر، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم.
وَآثَارَهُمْ وهي آثار الخير وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم. وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحدٌ من الناس بسبب علم العبد وتعليمه أو نصحه أو أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين أو في كتب يُنتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرًا من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدًا أو محلًا من المحال التي يرتفق بها الناس وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر.
ولهذا {من سنّ سُنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنّةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة}.
وهذا الموضع يبيّن لك علوّ مرتبة الدعوة إلى الله والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه، وأنه أسفل الخليقة وأشدهم جرمًا وأعظمهم إثمًا ) انتهى كلامه رحمه الله.
ولا يخفى قول الرسول: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له} [رواه مسلم].
2 - هل الإنفاق الموجود في المجتمع قد بُذل في أهم مجالات الخير وأشدها حاجة، وأكثرها أجرًا وأحسنها أثرًا؟
وللإجابة على هذا السؤال أقول: إن بعض من قد يريد الإنفاق لا يتحرى عن أفضل أبواب الصدقة وأشدها حاجة، والمشروع منها من غيره، وإنما حسب عادة اعتادها أو ورثها عن أبيه.
ولذلك تجد: من يقوم بإنشاء مسجد ويبني له منارتين، وكان يكفيه واحدة وربما تكون تكلفة المنارة الثانية تكفي لإنشاء مركز إسلامي أو بناء مساجد أخرى.
ومن الأمثلة أيضًا: من يقوم بإنشاء مسجد يتسع لألف مصل، مع غلبة الظن أنه لن يجتمع فيه هذا العدد ولا قريبًا منه، فلو تمّ بناء المسجد حسب العدد المتوقع أو يزيد قليلًا لأمكن صرف باقي المبلغ لأعمال خيرية أخرى أكثر أهمية من مساحة داخل المسجد لا يُحتاج إليها، وإنما تستنزف الطاقة في التكييف والفرش والإضاءة والصيانة.
ومن البرامج التي يمكن صرف باقي المبلغ فيها وهي تابعة للمسجد: إقامة فصول دراسية لتعليم العلم الشرعي وتحفيظ القرآن الكريم وإنشاء مكتبة شاملة نافعة لجماعة المسجد، أو إنشاء وقف يستثمر ويكون ريعه للصرف على المسجد وبرامج الدعوة المقامة فيه.
ومن الأمثلة التي تخفى على بعض أهل الخير: من يلزم نفسه الإقامة في مكة خلال شهر رمضان المبارك كل عام، ومثل هذا لو نوّع في أعمال الخير ذات الأثر المتعدي نفعه بين سنة وأخرى لربما كان أنفع له ولغيره.
وقد ذكر الإمام ابن القيّم رحمه الله عن أفضل العبادة كلامًا يحسن الرجوع إليه كاملًا، وكان مما قال: (والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك) [مدارج السالكين:1 101].
ولو تمّ تقدير ما ينفقه الشخص الواحد من أجل المكث في مكة المكرة عشرة آلاف ريال، لكان حاصل ما ينفقه خمسون ألف مستأجر خلال رمضان في مكة خمسمائة مليون ريال.
ولا يخفى أن مجالات الخير المتعدي نفعها في الداخل أو الخارج في أشد الحاجة إلى هذه المبالغ وأمثالها.
ومن العبادات المتعدي نفعها للغير: الصدقة على الفقراء والمساكين بكل أنواعها، وكفالة الأيتام وحفر آبار المياه لابن السبيل، ودعم برامج الدعوة إلى الله كـكفالة الدعاة وطباعة الكتب والرسائل، ونسخ الأشرطة المفيدة بعدة لغات، وبناء المساجد والمراكز الإسلامية وإنشاء المكتبات الشرعية، ودعم حِلق تحفيظ القرآن الكريم بالجوائز ومكافآت المعلمين، ونحو ذلك من المجالات الكثيرة التي يشمل الكثير منها اسم الصدقة الجارية والعلم الذي ينتفع به، كما أن فيها تأدية لواجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبلاغ دين الله عز وجل.
فهل نوظف ما رزقنا الله تعالى من إمكانات وأموال من أجل إقامة الدين الحق وبيانه، ودحر الباطل وأهله وحماية عقائد المسلمين وأخلاقهم من كيد أعدائهم من قبل أن نبحث عن هذه الأموال فلا نجدها لا قدّر الله؟! فإن الأيام دول والذي أنعم بها علينا قادرٌ على أن يحولها إلى آخرين إن لم نشكرها شكرًا عمليًا.
3 - هل الإنفاق القائم قد أسقط الإثم عن جميع القادرين على دعم الأعمال الواجب دعمها والبذل فيها؟
أترك الإجابة للقارئ الكريم.
ولا يخفى على الجميع ما يبذله أعداء الإسلام من اليهود والنصارى ودعاة البدع وأهل الملل المنحرفة وغيرهم من جهود جبارة لتجهيل المسلمين بدينهم وإخراجهم منه وصدّ غيرهم عنه.
فهل نقوم بواجبنا تجاه ديننا ونسلم من الإثم في ترك الدعوة والتخلي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبلاغ دين الله تعالى كل حسب طاقته وحاله؟! آمل أن يتحقق قريبًا والله المستعان.
4 - هل الإنفاق الموجود قد التزم فيه بالآداب والأحكام الشرعية؟
إن واقع بعض حالات الإنفاق الموجودة لم يتحقق فيه ما سبق؛ فمن الأخطاء في ذلك:
(أ) الشيطان الرجيم يحسد ابن آدم على إقدامه على هذه العبادة (الصدقة) فيحاول أن يثنيه عنها، فإن لم يستطع حاول إفساد نيته وجعلها لغير الله، مثل الشهرة والرياء والدعاية ومنافسة الأقران ودفع كلام الناس عنه، ونحو ذلك فيُحرم المنفق القبول عند الله.
(ب) الإسراف والصرف فيما لا حاجة إليه مثل: زخرفة المساجد ووضع القبب وأدوات الإضاءة باهظة الثمن.
(جـ) دفع الزكاة إلى غير أهلها، أو إيكال صرفها إلى من لا يوثق بدينه وعلمه، فلا يحسن حينئذٍ صرفها.
ولو تمّ تقدير ما يدفعه جماعة مسجد واحد خلال عام للمتسولين الذين لا تُعلم أحوالهم بل ربما أكثرهم لا يستحقون الصدقة - فكيف بالزكاة الواجبة - لو قدرنا ذلك لبلغ خلال عام تسعين ألف ريال إذا كان عدد المنفقين في اليوم الواحد خمسين فردًا، ومقدار الإنفاق خمسة ريالات في المرة الواحدة.
5 - هل من وسائل ميسرة للمساهمة في المجالات التي يجب على المسلمين البذل فيها؟
نعم ولله الحمد في الآونة الأخيرة تيسرت طرق كثيرة يمكن من خلالها المساهمة في مصارف الخير سواء كانت إغاثية أم دعوية تربوية.
ومن الأمثلة على ذلك: مكاتب الدعوة وتوعية الجاليات، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم، وجمعيات البر والمبرات الخيرية.
وكذلك الجمعيات والمؤسسات الخيرية التي لها نشاط إسلامي في الخارج.
والأَولى أن يباشر المرء إخراج صدقاته وزكواته، وإن أراد أن يوكل أحدًا فليتحر أوثق من يعرف، حتى تكون أعمال برّه على أحسن وجه وأكثر نفعًا وأدوم زمنًا.
وللإجابة على سؤال يطرحه بعض أهل الخير قائلًا: أنا لا أستطيع أن أُقيم مركزًا إسلاميًا أو أبني مسجدًا أو أطبع كتابًا فما العمل؟
فأقول: إن الجمعيات الدعوية ومكاتب الدعوة تساعدك في الحصول على ما تريد، فهي تستقبل القليل والكثير حتى إذا اجتمع ما يكفي لإقامة مركز أو طباعة كتاب أو أي عمل دعوي قامت بتنفيذه.
6 - هل هناك أعمال وتصرفات تضيع فيها أموال الناس يمكن أن تُستثمر لصالح أعمال إيجابية مفيدة؟
أقول: نعم. ومن الأمثلة على ذلك:
الإسراف في الولائم والحفلات والملابس والمساكن. فإذا كانت وليمة الزواج الواحدة في أحد قصور الأفراح أو الفنادق تتكلف مثلًا ثلاثين ألف ريال فإن إقامة ألف وليمة في مدينة واحدة خلال عام يتكلف ثلاثين مليون ريال، فلو أن كلّ متزوج اقتصر على ثلث المبلغ لأمكن توفير عشرين مليون ريال، لينتفع به الأزواج أو يصرف في مجالات الخير المتعددة التي هي في أشد الحاجة إليه.
وأما الأموال التي تصرف من أجل السفر للخارج أثناء الإجازات الصيفية فشيء يخجل المسلم من ذكره ويخشى من العقوبة حيث إن معظمه يصرف في أمور محرمة ولهو تافه، ولقد نشر في إحدى المجلات أنه خلال إحدى الإجازات الصيفية تم تحويل 26 مليون ريال خارج البلاد من أجل السياحة [مجلة عالم الإقتصاد: السنة الثامنة: العدد 89].
أسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يرزق الجميع صلاح النية وحسن العمل.
فتوى:
سؤال: هل الأفضل لي وأكثر أجرًا خلال شهر رمضان المبارك الذهاب لمكة المكرمة للمكث فيها بضعة أيام لأداء العمرة والصلاة والعبادات الأخرى أم أتصدق بتكاليف ذلك ماليًا في أوجه البر المتعدي نفعها؟
فأجابت اللجنة بأنه إذا كان بإمكانك أن تجمع بين الأمرين المذكورين في السؤال فهو أفضل وأعظم أجرًا، لما في ذلك من كثرة الأعمال الصالحة والتقرب إلى الله بنوافل الطاعات.
أما إن عجزت عن الجمع بين الأمرين وقد أديت فريضة الحج والعمرة وظهر لك حاجة الفقير واضطراره فإنك تقدم الصدقة على نافلة العمرة، لقول الله سبحانه وتعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:16،11]، ولأن نفع الصدقة يتعدى لغيرك مع حصولك على الأجر العظيم والثواب الكثير؛ ولما في الصدقة من التكافل والتآزر بين المسلمين وسدّ حاجة معوزهم وإعانته على أمور دينه ودنياه.. وبالله التوفيق.
وسُئل فضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله: هل إنفاق نفقة عمرة التطوع في الجهاد ونشر العلم وقضاء حوائج الضعفاء أفضل من الاعتمار أو الاعتمار أفضل؟ وهل يشمل ذلك عمرة رمضان؟
فأجاب رحمه الله: يمكن الجمع بينهما فيما يظهر إذا اقتصد في نفقات العمرة ولا سيما العمرة في رمضان، فإن لم يكن الجمع فما نفعه متعديًا فهو أفضل. وعلى هذا يكون الجهاد ونشر العلم وقضاء حوائج المحتاجين أولى.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الكاتب: عبدالله الدامغ
المصدر: موقع كلمات